فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والعاديات ضَبْحًا} أي الأفراس تعدو.
كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة؛ أي تعدو في سبيل الله فتضبح.
قال قتادة: تضبح إذا عدت؛ أي تحمحِم.
وقال الفراء: الضَّبْح: صوت أنفاس الخيل إذا عَدَوْن.
ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضْبَح غير الفرس والكلب والثعلب.
وقيل: كانت تُكْعَم لئلا تصهَل، فيعلم العدوّ بهم؛ فكانت تتنفس في هذه الحال بقوّة.
قال ابن العربي: أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {يس والقرآن الحكيم} [ياس: 1 2]، وأقسم بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وأقسم بخيله وصهيلها وغُبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال: {والعادِيات ضَبْحا}...
الآيات الخمس.
وقال أهل اللغة:
وَطَعْنةٍ ذاتِ رَشاشٍ واهِيَهْ ** طَعَنْتَها عندَ صُدُورِ العَادِيهْ

يعني الخيل.
وقال آخر:
والعادياتُ أَسابِيُّ الدماءِ بها ** كأنّ أعناقَها أنصاب ترجِيبِ

يعني الخيل.
وقال عنترة:
والخيل تعلم حين تَضْ ** بَحُ فِي حِياضِ المَوْتِ ضَبْحَا

وقال آخر:
لَسْتُ بالتُّبَّعِ اليمانِيِّ إنْ لَمْ ** تَضْبَحِ الخيلُ في سَوادِ العِرَاقِ

وقال أهل اللغة: وأصل الضَّبْح والضُّباح للثعالب؛ فاستعير للخيل.
وهو من قول العرب: ضَبَحَتْه النار: إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه.
وقال الشاعر:
فَلَمَّا أَنْ تلْهُوجْنَا شِواءً ** به اللَّهَبانُ مَقهورًا ضَبِيحًا

وانضبح لونه: إذا تغير إلى السواد قليلًا.
وقال:
علقتُها قَبل انْضِباحِ لَوْنِي

وإنما تَضْبَح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فَزَع وتعب أو طمع.
ونصب {ضَبْحا} على المصدر؛ أي والعاديات تضبحُ ضَبْحًا.
والضَّبِح أيضًا الرّماد.
وقال البصريون: {ضَبْحًا} نصب على الحال.
وقيل: مصدر في موضع الحال.
قال أبو عبيدة: ضَبَحَتِ الخيل ضَبْحًا مثل ضَبَعَتْ؛ وهو السير.
وقال أبو عبيدة: الضَّبْح والضَّبْع: بمعنى العدو والسير.
وكذا قال المبرد: الضبح مدّ أضباعها في السير.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيّة إلى أناس من بني كِنانة، فأبطأ عليه خبرها، وكان استعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، وكان أحد النقباء؛ فقال المنافقون: إنهم قُتلوا؛ فنزلت هذه السورة إخبارًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وبشارة له بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم.
وممن قال: إن المراد بالعاديات الخيل، ابنُ عباس وأنس والحسن ومجاهد.
والمراد الخيل التي يغزو عليها المؤمنون.
وفي الخبر: «من لم يعرف حُرْمة فرس الغازي، ففيه شُعبة من النفاق» وقول ثان: أنها الإبل؛ قال مسلم: نازعتُ فيها عكرمة فقال عكرمة: قال ابن عباس هي الخيل. وقلت: قال علي هي الإبل في الحج، ومولاي أعلم من مولاك.
وقال الشعبيّ: تمارى على وابن عباس في {العاديات}، فقال علي: هي الإبِل تعدو في الحج.
وقال ابن عباس: هي الخيل؛ ألا تراه يقول: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} فهل تثير إلا بحوافرها! وهل تَضْبَحُ الإبل! فقال علي: ليس كما قلت، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد، وفرس لمرَثد بن أبي مَرْثَد؛ ثم قال له على: أتفتِي الناس بما لا تعلم! والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام وما معنا إلا فرسان: فرس للمقداد، وفرس للزُّبير؛ فكيف تكون العادياتِ ضبحا! إنما العادياتُ الإبل من عَرَفَة إلى المزدلِفة، ومن المزدلِفة إلى عرفة.
قال ابن عباس: فرجعت إلى قول على، وبه قال ابن مسعود وعبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدّي.
ومنه قول صفِية بنت عبد المطلب:
فلا والعادياتِ غَداة جَمْع ** بأيديها إذا سَطَع الغُبار

يعني الإبل.
وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو، وهو تباعد الأرجل في سرعة المشي.
وقال آخر:
رأَى صاحبي في العادياتِ نَجِيبةً ** وأمثالها في الواضعاتِ القوامِسِ

ومن قال هي الإبل فقوله: {ضبحا} بمعنى ضبعًا؛ فالحاء عنده مبدلة من العين؛ لأنه يقال: ضبعت الإبل وهو أن تمد أعناقها في السير.
وقال المبرد: الضبع مدّ أضباعها في السير.
والضبح أكثر ما يستعمل في الخيل.
والضبع في الإبل.
وقد تبدل الحاء من العين.
أبو صالح: الضبح من الخيل: الحمحمة، ومن الإبل التنفس.
وقال عطاء: ليس شيء من الدواب يَضْبَحُ إلا الفرس والثعلب والكلب؛ وروي عن ابن عباس.
وقد تقدّم عن أهل اللغة أن العرب تقول: ضَبَح الثعلب؛ وضبح في غير ذلك أيضًا.
قال تَوْبة:
ولو أَنَّ ليلَى الأخيلِية سَلَّمَتْ ** على ودونِي تُرْبة وصفائِح

لَسَلَّمْتُ تسليمَ البشاشةِ أَو زَقَا ** إليها صَدًى من جانب القبرِ ضابحُ

زقا الصدى يزقو زُقاء: أي صاح.
وكل زاقٍ صائح.
والزَّقْية: الصيحة.
{فالموريات قَدْحًا} قال عكرمة وعطاء والضحاك: هي الخيل حين تُورِي النار بحوافرها، وهي سنابكها؛ وروي عن ابن عباس.
وعنه أيضًا: أورت بحوافرها غُبارًا.
وهذا يخالف سائر ما روي عنه في قدح النار؛ وإنما هذا في الإبل.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد {والعاديات ضَبْحًا فالموريات قَدْحًا} قال: قال ابن عباس: هو في القتال وهو في الحج.
ابن مسعود: هي الإبل تطأ الحصى، فتخرج منها النار.
وأصل القدْحِ الاستخراج؛ ومنه قَدَحْت العين: إذا أخرجت منها الماء الفاسد.
واقتدحْت بالزند.
واقْتدَحْتُ المرق: غَرفته.
ورَكِيَّ قَدُوح: تغترف باليد.
والقَديح: ما يبقى في أسفل القِدر، فيغرف بَجهد.
والمِقدحة: ما تُقْدَح به النار.
والقدّاحة والقدّاح: الحجر الذي يُورِي النار.
يقال: وَرَى الزند (بالفتح) يَرِي وَرْيًا: إذا خرجت ناره.
وفيه لغة أخرى: وَرِي الزند (بالكسر) يَرِي فيهما.
وقد مضى هذا في سورة (الواقعة).
و{قَدْحًا} انتصب بما انتصب به {ضَبْحًا}.
وقيل: هذه الآيات في الخيل؛ ولكن إيراءها: أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوّهم. ومنه يقال للحرب إذا التحمت: حَمِيَ الوَطِيسُ. ومنه قوله تعالى: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المائدة: 64].
وروي معناه عن ابن عباس أيضًا، وقاله قتادة.
وعن ابن عباس أيضًا: أن المراد بالمُوريات قَدْحًا: مَكْرُ الرجال في الحرب؛ وقاله مجاهد وزيد بن أسلم.
والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه: والله لأمكُرنَّ بك، ثم لأُورِيَنَّ لك.
وعن ابن عباس أيضًا: هم الذين يغزُون فيُورون نيرانهم بالليل، لحاجتهم وطعامهم.
وعنه أيضًا: أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهابًا.
وكل من قرب من العدوّ يُوقد نيرانًا كثيرة ليظنهم العدوّ كثيرًا.
فهذا إقسام بذلك.
قال محمد بن كعب: هي النار تجمع.
وقيل: هي أفكار الرجال تُورِي نار المكر والخديعة.
وقال عكرمة: هي أَلْسنة الرجال تُورِي النار من عظيم ما تتكلم به، ويَظْهر بها، من إقامة الحُجج، وإقامة الدلائل، وإيضاح الحق، وإبطال الباطل.
وروى ابن جُريج عن بعضهم قال: فالمُنجِحات أمرا وعملًا، كنجاح الزند إذا أوري.
قلت: هذه الأقوال مجاز؛ ومنه قولهم: فلان يُورِي زِناد الضلالة.
والأوّل: الحقيقة، وأن الخيل من شِدّة عدوِها تقدح النار بحوافرها.
قال مقاتل: العرب تسمي تلك النار نار أبي حُباحِب، وكان أبو حُباحِب شيخًا من مُضَر في الجاهلية، من أبخل الناس، وكان لا يُوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون، فيوقِد نُويرةً تقِد مرّة وتخمد أخرى؛ فإن استيقظ لها أحد أطفأها، كراهية أن ينتفع بها أحد.
فشبهت العرب هذه النار بناره؛ لأنه لا يُنتفع بها.
وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت نارًا، فكذلك يسمونها.
قال النابغة:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنّ سُيوفهم ** بهنّ فَلولٌ مِن قرأع الكتائبِ

تَقُدَّ السَّلُوقِيَّ المضاعَف نَسْجُه ** وتُوقِد بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ

{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)}
الخيل تغِير على العدو عند الصبح؛ عن ابن عباس وأكثرِ المفسرين.
وكانوا إذا أرادوا الغارة سَرَوْا ليلًا، ويأتون العدوّ صبحًا؛ لأن ذلك وقت غفلة الناس.
ومنه قوله تعالى: {فَسَاءَ صَبَاحُ المنذرين} [الصافات: 177].
وقيل: لعِزهم أغاروا نهارًا، و{صُبْحًا} على هذا، أي علانية، تشبيهًا بظهور الصبح.
وقال ابن مسعود وعليّ رضي الله عنهما: هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من مِنى إلى جَمْع.
والسنة ألا تَدْفع حتى تصبح؛ وقاله القُرَظِيّ.
والإغارة: سرعة السير؛ ومنه قولهم: أشرِقْ ثَبِير، كيما نُغِير.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)}
أي غبارًا؛ يعني الخيل تثير الغبار بشدّة العدو في المكان الذي أغارت به.
قال عبد الله بن رواحة:
عدِمْتُ بُنَيَّتِي إن لم تَرَوْها ** تُثِير النَّقْعَ من كَنَفَيْ كَداءِ

والكناية في {به} ترجع إلى المكان أو إلى الموضع الذي تقع فيه الإغارة.
وإذا عُلِم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجر له ذكر بالتصريح؛ كما قال؛ {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32].
وقيل: {فَأَثَرْنَ بِهِ}، أي بالعَدْو {نَقْعًا}.
وقد تقدّم ذكر العَدْو.
وقيل: النقع: ما بين مزدلِفة إلى مِنى؛ قاله محمد بن كعب القُرَظِيّ.
وقيل: إنه طريق الوادي؛ ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع.
وفي الصحاح: النقع: الغبار، والجمع: نِقاع.
والنقع: محبِس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه.
وفي الحديث: أنه نهى أن يمنع نقع البئر.
والنقع الأرض الحرّة الطين يستنقع فيها الماء؛ والجمع: نِقاع وأنقع؛ مثل بحر وبِحار وأبحر.
قلت: وقد يكون النقع رفع الصوت، ومنه حديث عمر حين قيل له: إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد؛ فقال: وما على نساء بني المغِيرة أن يسفِكن من دموعهنّ وهنّ جلوس على أبي سليمان، ما لَمْ يكن نقْع ولا لَقْلقَة.
قال أبو عبيد: يعني بالنقع رفع الصوت؛ على هذا رأيت قول الأكثرين من أهل العلم؛ ومنه قول لبيد:
فمتى ينقَعْ صُراخٌ صادِق ** يُحْلِبوها ذاتَ جَرْس وزَجَل

ويروى (يَحْلِبوها) أيضًا.
يقول: متى سمعوا صراخًا أحلبوا الحرب، أي جمعوا لها.
وقوله: (يَنْقع صُراخ): يعني رفع الصوت.
وقال الكسائي: قوله (نقع ولا لقلقة) النقع: صنعة الطعام؛ يعني في المَأْتم.
يقال منه: نقعْت أنقَع نَقْعًا.
قال أبو عبيد: ذهب بالنقع إلى النَّقيعة؛ وإنما النقيعة عند غيره من العلماء: صنعة الطعام عند القدوم من سفر، لا في المأتم.
وقال بعضهم: يريد عمر بالنقع: وضع التراب على الرأس؛ يذهب إلى أن النقع هو الغبار.
ولا أحسب عمر ذهب إلى هذا، ولا خافه منهنّ، وكيف يبلغ خوفه ذا وهو يكره لهنّ القيام.
فقال: يَسْفِكْنَ من دموعهنّ وهُنّ جلوس.
قال بعضهم: النقع: شق الجيوب؛ وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه، وليس النقع عندي في هذا الحديث إلا الصوت الشديد، وأمّا اللقلقة: فشِدّة الصوت، ولم أسمع فيه اختلافًا.
وقرأ أبو حَيْوة: {فأَثَّرْنَ} بالتشديد؛ أي أرت آثار ذلك.
ومن خفف فهو من أثار: إذا حرّك؛ ومنه {وَأَثَارُواْ الأرض} [الروم: 9].
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)}
{جَمْعًا} مفعول ب{وَسَطْن}؛ أي فوسطْن بركبانهن العدوّ؛ أي الجمع الذي أغاروا عليهم.
وقال ابن مسعود: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}: يعني مُزْدلِفة؛ وسميت جمعًا لاجتماع الناس.
ويقال: وسَطْتُ القوم أَسِطُهم وَسْطًا وسِطَةً؛ أي صِرت وَسْطَهم.
وقرأ علي رضي الله عنه {فَوَسَّطْن} بالتشديد، وهي قراءة قتادة وابن مسعود وأبي رجاء؛ لغتان بمعنى، يقال: وسَّطْتُ القوم (بالتشديد والتخفيف) وتَوَسَّطتُهُمْ: بمعنى واحد.
وقيل: معنى التشديد: جعلها الجمع قسمين.
والتخفيف: صِرْن في وسط الجمع؛ وهما يرجعان إلى معنى الجمع.
{إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)}
هذا جواب القسم؛ أي طبع الإنسان على كفران النعمة.
قال ابن عباس: {لَكَنُودٌ} لكفور جَحُود لنعم الله.
وكذلك قال الحسن.
وقال: يذكر المصائب وينسى النعم.
أخذه الشاعر فنظمه:
يا أيها الظالمُ في فِعْلِهِ ** والظُّلْم مردود على مَنْ ظَلَمْ

إلى متى أَنْتَ وحَتَّى متى ** تشكو المُصيباتِ وتنسى النعم!

وروى أبو أمامة الباهِلِيّ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكَنُود، هو الذي يأكل وَحْدَه، ويمنع رِفْده، ويضرب عَبْدَه» وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُنبِّئُكُمْ بشرارِكُمْ»؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: «من نَزَل وحدَه، ومنع رِفْدَه، وجَلَد عبدَه» خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول.
وقد روي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: الكَنود بلسان كِندة وحضرموت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور.
وبلسان كِنانة: البخيل السَّيّء المَلَكة؛ وقاله مقاتل.
وقال الشاعر:
كَنود لِنَعماء الرجالِ ومَنْ يكن ** كَنودًا لنعماء الرجال يُبَعَّدِ

أي كفور.
ثم قيل: هو الذي يكفر اليسير، ولا يشكر الكثير.
وقيل: الجاحد للحق.
وقيل: إنما سميت كِنْدَة كِندة، لأنها جحدتْ أباها.
وقال إبراهيم بن هَرْمَة الشاعر:
دعِ البخلاءَ إن شمخُوا وصَدُّوا ** وذِكَرى بُخْل غانيةٍ كَنودِ

وقيل: الكَنود: من كَند إذا قطع؛ كأنه يقطع ما ينبغي أنّ يواصله من الشكر.
ويقال: كَنَد الحبلَ: إذا قطعه.
قال الأعشى:
أمِيطِي تُمِيطي بصُلْبِ الفؤادِ ** وَصُولِ حِبالٍ وكَنَّادِها

فهذا يدل على القطع.
ويقال: كَنَدَ يكْنِد كُنودًا: أي كفر النعمة وجحدها، فهو كنود.
وأمرأة كنود أيضًا، وكُنُدٌ مِثله.
قال الأعشى:
أحدث لها تحدِث لوصلك إنها ** كُنُد لوصلِ الزائر المعتادِ

أي كفور للمواصلة.
وقال ابن عباس: الإنسان هنا الكافر؛ يقول إنه لكفور؛ ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئًا.
وقال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة.
قال المبرد: الكنود: المانع لما عليه.
وأنشد لكثير:
أحدثْ لها تُحْدِثْ لوصلك إنها ** كُنُدٌ لِوَصل الزائر المعتاد

وقال أبو بكر الواسطي: الكنود: الذي ينفق نِعم الله في معاصي الله.
وقال أبو بكر الوراق: الكنود: الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه.
وقال الترمذي: الذي يرى النعمة ولا يرى المنعِم.
وقال ذو النون المصري: الهلوع.
والكنود: هو الذي إذا مسه الشر جزوع، وإذا مسه الخير منوع.
وقيل: هو الحقود الحسود.
وقيل: هو الجهول لقدره.
وفي الحكمة: من جهِل قدره: هتك سِتره.
قلت: هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود.
وقد فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة، وأحوال غير محمودة؛ فإن صح فهو أعلى ما يقال، ولا يبقى لأحد معه مقال.
{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)}
أي وإن الله عز وجل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد.
كذا روى منصور عن مجاهد؛ وهو قول أكثر المفسرين، وهو قول ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب: {وإنه} أي وإن الإنسان لشاهد على نفسه بما يصنع؛ ورُوِي عن مجاهد أيضًا.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ} أي الإنسان من غير خلاف.
{لِحُبِّ الخير} أي المال؛ ومنه قوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180].
وقال عدِيّ:
ماذا تُرَجِّي النفوسُ من طلبِ ال ** خَيْر وحُبُّ الحياةِ كارِبُها

{لَشَدِيدٌ} أي لقوِيّ في حبه للمال.
وقيل: {لشدِيد} لبخيل.
ويقال للبخيل: شديد ومتشدّد.
قال طَرفة:
أَرَى الموتَ يعتامُ الكِرامَ ويَصْطَفِي ** عَقِيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ

يقال: اعتامه واعتماه؛ أي اختاره.
والفاحِشُ: البخيل أيضًا.
ومنه قوله تعالى: {وَيَأمركُم بالفحشاء} [البقرة: 268] أي البخل.
قال ابن زيد: سمى الله المال خيرًا؛ وعسى أن يكون شرًا وحرامًا؛ ولكن الناس يَعُدّونه خيرًا، فسمَّاه الله خيرًا لذلك.
وسمى الجهاد سُوءًا، فقال: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] على ما يسميه الناس.
قال الفرّاء: نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحبّ للخير؛ فلما تقدّم الحب قال: شديد، وحذف من آخره ذكر الحب؛ لأنه قد جرى ذكره، ولرؤوس الآي؛ كقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18]، والعُصُوف: للريح لا الأيام، فلما جرى ذكر الريح قبل اليوم، طرح من آخره ذكر الريح؛ كأنه قال: في يوم عاصِف الريح. اهـ.